المقال الأول .. سلسلة (همس)
لا تقتل حبك
بقلم ... ابن المبارك
لأنه من أعظم ما تحن إليه النفس .. أن تَحب وأن تُحب ..وأن تشعر بلذة إحساس دافق يموج بين جنباتها ... لأنه كذلك .. فان إحساساً نبت في تربة قلوبنا ,ليحتاج إلى رعاية وتنقية وتعهد ووفاء ...ولعل الإفصاح أول الطريق ...ـ
فلقد شاع عندنا - لا أدري ما السبب- أن الإفصاح عن الحب ضعف، وأن من الكبرياء والكرامة تعمد عدم ذكر هذه العاطفة للطرف الآخر أو ذكر ذلك أمام آخرين ، وإذا فهمنا دوافع الكتمان بين المحبين الذين ليس ثمة رابط شرعيّ بينهما، فإننا لا نفهم - فضلاً عن أن نتفهم - أن يظل من جمعهم حب في الله وصدق أخوة يدورون في فلك الكتمان، تحت أي دعوى كانت.. لأنه من العيب!!، أن يضبط أحدهما وهو ينفس عما يعتمل داخله من عواطف رقراقة صافية، وكم من حب ضاع بين مفاهيم السمو الخاطئة وبين معاني الكبرياء والكرامة ـ
وإذا كانت هذه ثقافة مجتمعنا العربي تجاه هذه القضية فإن ثقافتنا الإسلامية الأصيلة لا علاقة لها بهذه " الفبركات " التربوية !! وإنما بها جوانب أخرى نستعرضها... ـ
الله سبحانه وتعالى صرح بحبه لبعض فئات البشر " المؤمنين، المتوكلين، التوابين، المتطهرين "، كما صرَّح بحبه وتزكيته لبعض الأفعال والصفات الإنسانية: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا …"، وإذا كان في أمر التصريح بالحب ضعف أو نحوه لما صح ذلك في حق الله -سبحانه وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-، والقرآن يصف أرقى علاقة قلبية في الكون، وهي علاقة الخالق القادر بالمخلوق الطائع بقوله سبحانه :" يحبُّهُم ويحبُّونَه ". ـ
وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي البيان العملي للإسلام تشهد بعكس ما توارثناه في مجتمعاتنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم, أوصى بنشر هذا الحب، ونشر ثقافة الإفصاح عن الحب حينما أخبره أحد صحابته أنه يحب فلانًا، فسأله: أأخبرته ؟ قال: لا، قال: إذن فأخبره ". ولا شك أن الإفصاح عن الحب يعمق الروابط بين القلوب، كما يؤكد على المشاعر التي قد لا يشعر بها البعض أو لا يُقدّر حجمها -وهي مكنونة في الصدور- إلا إذا أظهرها اللسان وعبَّر عنها، والأمر لدى الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ليس وسيلته الوحيدة اللسان ولكن الهدية وسيلة، "تهادوا تحابوا"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم "، والصحابة -رضي الله عنهم- في شوق يسألونه بلى يا رسول الله .. قال : " أفشوا السلام بينكم "..ـ
والنبي صلى الله عليه وسلم يضرب أمثالا من الإفصاح عن الحب الصادق مع أصحابه وأزواجه .. ـفهو مع زوجاته صلى الله عليه وسلم مثال رائع .. تأمَّل موقفه صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد، تأتيه زوجته المحِبَّة "صفية" – رضي الله عنها - توصل له طعامًا أو تأنس بالحديث معه، ثم إذا خرجت لم يتركها تذهب وحدها وإنما قطع اعتكافه، ولم يمنعه وجوده بين يدي ربه من أن يخرج ليمشي معها قليلاً ويوصلها إلى بيتها، في حديث متصل حميميّ، ومشاعر نابضة لا تنقطع، ولم يخشَ أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من معتكفه وقطع عبادته؛ لأنه لا يخشى في الله لومة لائم، ولكن حين يقابل بعض صحابته يُعْلِمْهم ويعَلِّمهم (في هدف مشترك ): هذه صفية .. هذه صفية.ـ
ومع عائشة .. حدث ولا حرج .. يسأله سيدنا عمرو بن العاص يوما من أحب الناس إليك فيقول : عائشة .. نعم .. لم يخجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإفصاح بذلك أمام الصحابة ... وهى عائشة التي كان يقرأ القرآن في حجرها، ويلعق أصابعها بعد الأكل, ويتسابقان خلف القافلة حيث لا يراهما أحد , ويدللها ويناديها: يا عائش .ـومع خديجة .. قصص من الوفاء : أرأيت يوم فتح مكة , عندما رأته السيدة عائشة مع إحدى العجائز فتسأله عنها فيجيب : إنها صديقة عائشة كانت تبرها في حياتها .. وفيم كنتم تتحدثون .. كنا نتحدث عن الأيام الخوالي ..ـ
أما مع أصحابه رضى الله عنهم ... هل نتحدث عن سيدنا أبو بكر الصديق الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : " لو كنت متخذاً خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا " ـ أم نتحدث عن سيدنا على رضى الله عنه الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " إني مع عليّ يوم القيامة فيقول الله يا حبيبي لقد اخترت لك إبراهيم خير والد , واخترت لك عليّ خير أخ وصديق " ..ـ
وتأمل في هذا الموقف : الرسول صلى الله عليه وسلم مع كعب بن مالك - أحد المخلفين الذي أمر الله بمقاطعة الأمة المسلمة لهم جميعًا- له أمر عجيب يدل على مدى حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام – رضوان الله عليهم -، واستعمال وسيلة النظرة الحانية في إظهار هذا الحب يقول أبي: " إنني كنت أجلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته في المسجد، يُهَيَّأ إليّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر لي، وحين ألتفت إليه أجده أشاح بوجهه كأنه لا ينظر إليّ .ـ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقع بين أمرين حبه لكعب، وحرصه عليه، وشفقته من عدم احتماله للمقاطعة العامة ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى أمر الله تعالى بالمقاطعة وعلمه صلى الله عليه وسلم أن ذلك الأمر أصلح تربويًّا ونفسيًّا لأبي، والرسول صلى الله عليه وسلم يُفْهِمنا أن النظرة الحانية وسيلة ساحرة، وأن صدق أشعتها ينفذ إلى القلوب حتى ولو لم ترها العيون وغيرها من المواقف كثير... ـ
وعلى الدرب سائرون .. الصحابة رضوان الله عليهم لم يحيدوا عن هذا الأسلوب الراقي .. هذا موقفا حدث بين أبو بكر الًصديق وبين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يتبين لنا فيه مدى حب الصحابة الكرام لبعضهم البعض وهذا الموقف هو : أن ذهب أبو بكر رضي الله عنه ومعه علي بن أبي طالب كرًم الله وجهه لزيارة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في بيته ذات يوم : وعندما وصلا إلى الباب قال أبو بكر الصًديق _رضي الله عنه : تقدًم يا علي . فقال علي رضي الله عنه , وكيف أتقدم عليك يا أبا بكر وقد قال فيك الرسول صلى الله عليه وسلم (( ما طلعت الشمس ولا غربت على رجل بعد النبيين أفضل من أبي بكر )) فقال أبو بكر رضي الله عنه : وكيف أتقدم عليك يا علي وقد قال فيك الرسول صلى الله عليه وسلم ( زوجت خير النساء لخير الرجال , زوجت فاطمة لعلي )ـ فقال علي رضي الله عنه : وكيف أتقدم عليك يا أبا بكر وقد قال فيك الرسول صلى الله عليه وسلم : لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر )ـ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : وكيف أتقدم عليك يا علي وقد قال فيك الرسول صلى الله عليه وسلم (( يٌحشر علي بن أبي طالب مع فاطمة والحسن والحسين راكبين يوم القيامة فيشير الناس إلى علي ويقولون : من هذا النبي فيقال لهم : ما هو بنبي وإنما هو علي بن أبي طالب )ـ
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وكيف أتقدم عليك يا أبا بكر وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( لو كنت متخذاً خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا )ـ
فقال أبو بكر رضي الله عنه : وكيف أتقدم عليك يا علي وقد قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إني مع علي يوم القيامة فيقول الله يا حبيبي لقد اخترت لك إبراهيم خير والد , واخترت لك علي خير أخ وصديق ) ـ
فقال علي رضي الله عنه : وكيف أتقدم عليك يا أبا بكر وقد قال فيك مولانا عز وجل : ( والذي جاء بالصدق وصدًق به أٌولئك هم المتقون ) ـفقال أبو بكر رضي الله عنه : وكيف أتقدم عليك يا علي وقد قال فيك مولانا : (( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد ) ـوبينما هما يتجاذبان أطراف الحديث إذا بالأمين جبريل عليه السلام يهبط على الأمين محمد صلى الله عليه وسلم _ ويقول له: يا رسول الله إن أبا بكر وعلياً واقفان ببابك فقم إليهما .. فقام الرسول صلى الله عليه وسلم إليهما , وجعل أبا بكر رضي الله عنه , عن يمينه وعلياً رضي الله عنه عن شماله , ودخل بهما إلي بيته وقال لهما : ( هكذا نُحشر يوم القيامة)ـ
مثال آخر .. بين عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهما فقد كان الحب والود بينهما لا ينقطع، ويعبران عن ذلك في مناسبات شتى فعمر رضي الله عنه حين تمنى كل صحابي شيئاً .. تمنى هو رجلاً مثل أبي عبيدة، وحين مات أبو عبيدة رضي الله عنه فحَدِّث ولا حرج عن مشاعر الحزن والوجد عند عمر الفاروق رضي الله عنه، ولكن الموقف الأوضح في هذه العلاقة ما جاء في " الإحياء " عن أن عمرًا رضي الله عنه ذلك الشديد القوي الذي لا يتوانى عن القتال والجهاد، والذي لا يعبأ من عاقب بدرته ما دام قد أخطأ، عمر هذا هو نفسه الذي كان إذا لقي أبا عبيدة رضي الله عنه انتحى به جانبًا من الطريق وجعل أحدهما يقبل يد الآخر - إجلالاً وإكبارًا - ويسمع صوت بكائهما !!ـ و مثال أخير .. صلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالناس الفجر ـ ثم التفت فقال : أين معاذ ؟ قال هاأنذا يا أمير المؤمنين .. قال عمر : لقد تذكرتك البارحة فبقيت أتقلب على فراشي حبا وشوقا إليك فتعانقا وتباكيا ...ـ ولعلنا لسنا في حاجة أن نذكر حال الصحابة بعد الهجرة , والحب الذي نشأ بين المهاجرين والأنصار ... حب قامت عليه أمة قوية , وكان من دعائم الدولة الإسلامية الأولى .ـ فلنفصح عن مشاعرنا ولنفتح قلوبنا، فإن كثيرًا من الأوراق تذبل، وكثيراً من المشاعر تموت لأننا لا نزكيها بالذكر، ولا نرويها بالتعبير عنها.ـ
----------------------------------------------------------------
----------------------------------------------------------------
* تم الاستعانة بكتاب .. (يا آدم أفصح عن حبك) لإعداد مادة هذا المقال