عشت حياتى اتقلب وسط القناعات وتمحيص الافكار والبحث عن الحقيقة .. كل يوم
يمر لابد فيه من جديد ينسف شيئاً قديما أو يرسخ قديم آخر .. حتى انى فكرت يوماً فى
تأليف كتاب بعنوان " رحلة البحث عن الحقيقة " , اجمع فيه كل الاشكاليات
النفسية التى تواجه الانسان فى طريقه القصير .. غير أن الوقت ولا المكان يسمحان
لقد تربيت فى بيئة دينية تقدس العلاقات الانسانية وتعلى من قيمة العطاء حتى
تبلغ به عنان السماء , حتى كدت أهلك نفسى بسبب اختلال التوازن فى هذه المسألة
أحيانا .. والاصرار على التطبيق بعيداً عن النظريات دون مراعاة الواقع الجديد احياناً
أخرى .. الواقع الذى غابت فيه الثوابت و الاصول وان بقيت محفورة فى الرؤوس .. وأسأل
الله أن أعود ثانية بعد ما طرأ من تحوّل
كانت تربية عقائدية تطوف بى من خلال أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم
توقفت متأملاً كثيراً , حديث الرسول صل الله عليه وسلم : " من صنع لكم
معروفاً فكافئوه , فان لم تستطيعوا أن تكافئوه , فادعوا الله له حتى تظنوا أنكم كافئتموه
" .. لأسأل نفسى : لم كل هذا المجهود ؟؟
ثم أتممت بهذا الحديث حديث النبى صلى الله عليه وسلم ذو الروايات المتعددة
: " حق المسلم على المسلم ست " ( تشميت العاطش وتلبية الدعوة وابداء
النصيحة واتباع الجنازة وزيارة المريض و .... ) وتعجبت كيف أن كل حقوق " المسلم
" تحتاج الى جهد ومجهود , ولا يوجد فيها شيئ مريح .. لأسأل نفسى مرة أخرى :
لم هذا التعب ؟؟
ثم سرحت مع روائع الامام ابوحامد الغزالى فى احيائه متحدثاً عن حقوق
الأخوّة بادئاً كلامه ليضع النهاية مبكراً : " واعلم أن عقد الأخوّة كعقد
الزواج " .. لأسأل ثالثاً : لم هذا التقديس ؟؟
وهو الذى ذكر ثلاثة مراتب للأخوّة فى اول فصل " حق المال " فقال :ـ
( الأولى : أن تنزله
منزلة عبدك أو خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة
عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير
في حق الأخوة
الثانية : أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك
ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال قال الحسن: كان أحدهم يشق إزاره بينه وبين
أخيه
الثالثة : وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك
وهذه رتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين ومن ثمار هذه الرتبة الإيثار بالنفس
فإن لم تصادف نفسك في رتبة من هذه الرتب مع أخيك
فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع
لها في العقل والدين ) .. وما أصعب هذا الكلام
ثم شردت بعيداً مع الحديث القدسى الجليل الذى نعرفه وننسى آخره .. "
من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب ......... " الى قوله " وما ترددت عن
شيئ أنا فاعله ترددى عن قبض نفس مؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته " .. لأرى قمة
مراعاة المشاعر , ولله المثل الأعلى .. فأسأل رابعاً : لم هذه المراعاة الدقيقة ؟؟
غير أن رسائل الله لى كانت أقوى وأعمق من هذه التحليلات .. اناس عاشوا
بيننا وأعطونا دروساً فى العطاء اللامحدود , بل وفى الابتكار فى العطاء .. ليضعوا
نماذج حية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أمشى فى حاجة أخى خير
لى من أن أعتكف فى مسجدى هذا شهراً " ـ
أتذكر مثلاً بعد وفاة والدتى ـ رحمها
الله ـ فقد سعدت بمواساة اخواننا خارج مصر
, السعودية وقطر والامارات وألمانيا , وشكرت لهم ذلك الاهتمام , وهو ان لم يفعلوا
فلا ضير ولا حرج عليهم .. كونهم بعيدون عن الوطن ولايملكون سوى كلماتهم هذه عبر
الهاتف , لكن ما حدث كان أكبر من تصورى , اذ اخبرنى ثلاثة منهم بالسعودية عن
توجههم لعمل عمرة عن والدتى هبة لها .. وكان الأمر مفاجئاً لى لسبب بسيط , هو أنهم
خرجوا بتفكيرهم الى أبعد الحدود حينما سأل كل واحد منهم نفسه : ما الذى يمكن أن
أقدمه الآن لأخى فى مصابه .. ولقد كانت أكبر هدية وأكبر درس فى عدم العجز عند العطاء
يحزن المرء حين المقارنة بين هذا الموقف وبين مواقف أخرى نرى فيها العجز
المستكين عند التفكير فى عطائنا الحياتى الطارئ كمثال .. فأقصى تفكير عند مرض
أحدنا أن نرسل له رسالة هاتف أن شفاك الله وعافاك وأقصى تفكير عند موت آخر , رسالة
بريد الكترونى أنّ البقاء لله .. والقائمة تطول بمثل هذا العجز , والاستثناء ليس
قاعدة فى الحكم بطبيعة الحال
لقد أيقنت حقاُ قول القائل : " حق الأخوّة حقان , حق لأخيك بينك وين
الله , وحق لأخيك بينك وبينه " ,
والذى نتقنه الآن أن نقوم بالنصف الأول " الدعاء " ونهمل الجزء الثانى " العطاء" ..
رغم أن الأول لن نحاسب عنه أمام الله بخلاف الثانى .
فى يوم من الأيام .. وصلتنى رسالة وأنا مقيم بالمستشفى مع والدتى فى أيامها
الأخيرة يقول صاحبها مواسياً : لا أملك لك الا الدعاء ,, مرت الأيام بعد وفاة
الوالدة وقابلت هذا الأخ الكريم وقلت له .. أرجو الا تتكرر هذه الرسالة مع أحد
بعدى لأنها نوع من اراحة الضمير بتبرير العجز .. اذ أنه فى نفس الوقت الذى وصلتنى
فيه رسالتك كان بجوارى عدد من الاخوة الأفاضل مقيمين معى للمساعدة وآخرون فى
المنزل يلبون متطلبات بيتنا الصغير وثالث يزورنى كل ليلة ورابع يجمع اخوانه يومياً
فى قيام الليل للدعاء لنا وخامس أتى بماله كله وتركه تحت تصرفى وسادس وسابع وثامن
.. كل حسب ما اهتدى تفكيره .
ان هذا العجز تتجلى صوره فى جوانب كثيرة يطول المقام بشرحها لكنها كلها تصب
فى خلل واحد ذو أركان متفرعة , غضب لأجله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ذهب
يوقظ سيدنا على ابن أبى طالب لصلاة الليل فردّ عليه : أنفسنا بيد الله ان شاء
بعثنا بعثناً .. فتركه الرسول غاضباً وهو يضرب بكفه على فخذه مردداً : وكان
الانسان أكثر شيئ جدلاً .
ومما لا أنساه فى عطاء الأخوّة .. هذان الطالبان الذان كانا يتقاسمان مصروفهما الشخصى وطعامهما , بل وثيايهما .. كنت مندهشا عندما أُهدى الى أحد منهما بدلة
جديدة فذهب بها الى أخيه طالباً وضعها عنده ليستخدمها حتى يحين وقت احتياجه اليها
فيأتي اليه ليطلبها , ثم اشترى الثانى حذاءاً جديداً فذهب الى أخيه الأول يخبره
بأمره وأن الحذاء تحت تصرفه فى أى وقت , ومن هذه الأشياء كثير كثير .. وهذان
الأخّان الكريمان من قرية بجوار المنصورة لم أراد أن يسمع بنفسه .
أما الأزمة الحقيقية أن تقوم بين اثنان عقد أخوّة ثم يكون العطاء من جانب
واحد فقط , فرد يعطى بلا حدود , وفرد يأخذ اللامحدود وقد تعوّد على ذلك , لطالما
حذرنى اساتذتى المربين من هذا الأمر , لأننا أحيانا دون أن ندرى ولحرصنا على
اخواننا وحبنا لهم واقتناعنا بالسهر على راحتهم نعودهم على ذلك بلا تأصيل شرعى
مساند أو تنبيه مستمر بأن يستفيد ويقلد ما يحدث معه مع الآخرين , وأن الأخوّة
شراكة باتجاهين لا طريق أحادى الاتجاه ..
والآن نحصد كثيراً من هذه الأخطاء .. جرّب اذاً أن تنقطع أو تقصر فى حق أحد
ممن تعودوا على هذا الخلل وانظر ما النتيجة .. آثار وانعاكسات سلبية عليه تصل الى
اتهامات بالتقصير وتشكيك فى القلوب وتفتيش فى النوايا .. لا لشيئ سوى أننا كبشر
صعب علينا قطع العوائد .
والأمر جد بسيط حين يقف الانسان مع نفسه لحظة صدق ومنطق ليعلم أن الحياة
أكبر من ذلك , وأن من أعطاك اليوم وساندك ورعاك وسهر على خدمتك , ربما يحتاج الى
ذلك غداً , وأين يجده سوى منك .. فأنت الشريك فى العقد وقد مضيت راضياً ومستمتعاً
بارادتك دون اجبار .
كنت دائماً أحدث اخوانى ممن يصغروننى سنا " والحق أن كثير منهم
يسبقوننى مقاماً وفهماً وقرباً الى الله , وهو سبب تمسكى بالتعلم منهم دائماً
" ـ كنت أحدثهم كيف أن العطاء لا يعرف كبيراً أو صغيراً ولا تلميذاً أو
معلماً , وظللت أردد لهم دائماً أن المسئول " انسان " أياً كان حجمه
وشكله , شأنه شأن أى انسان يخضع لقاعدة " الانسان أسير الاحسان " .
...
لعلى أسهبت فى هذا الجانب من جوانب العطاء والعلاقات الانسانية , وهو جانب
واحد من جوانب متعددة متشعبة , لكن الهدف أن أقول ان الانسان الذى لا يستطيع أن
يبذل فى هذا الجانب لن يستطيع أن يبذل فى العطاء الأكبر بالنفس والمال فى سبيل
الله , الانسان الذى لا يقدر قيمة المشى فى حوائج الناس لن يستطيع تخيل نفسه يمشى
فى ميدان التغيير والجهاد .. والذى لا يسدد ديونه المعنوية لن يسدد ديونه الى الله
فى دمه
كنت فى جنازة جد أحد الأخوة المقربين , وسعدت بهذا الحشد الذى أتى اليه
مسافراً ليقف بجواره معزياً ومواسياً , فلمّا فرغنا ليلاً من المراسم سألته بعدها
: هل تعرف عدد اخوانك الذين جاءوا اليك من كل صوب وحدب ؟ قال : نعم , سبعين , قلت
له : لعلك تشعر بهذا الفخر والسعادة فى داخلك بمثل هذا الموقف ؟ قال : نعم , قلت
له : أتدرى أن عليك الآن سبعين ديناً فى رقبتك , كان الله فى عونك , لأنه
أحياناً الديون المعنوية تكون أثقل من
الديون المادية
على هذا الفهم الشاق تربّينا وان كنا من بعده تحوّلنا , غير أننا فى كل يوم
ندرك أنه لا راحة فى الدنيا , وأن الجنة طريقها صعب الا لمن يسره الله له
والحمدلله رب العالمين
هناك 4 تعليقات:
سؤال بسيط :
هل تحولت فعلا ؟ و لم ؟ و لماذا أصبحت الثوابت و الأصول ( قناعات في العقول ) دون تطبيق كما تقول ؟
وهل العطاء له جهة معنية ؟ أم أن الطبيعي أنه يفيض من مركز منطلقا في دائرة منتظمة ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
العطاء أخي في الله قد يكون شيء فطري عند البعض أو مكتسب عند الآخرين .. لكن في النهاية ما يهمني هل الشخص الذي أعطيته .. استحق هذا العطاء وكان لديه خلق الفضيلة الذي لا يجعلنا نندم ..
وفي كلا الأحوال فإن العطاء لوجه الله تعالى وبدون أي انتظار لرد الجميل هو بحد ذاته القيمة المعنوية التي نصبو إليها.
بارك الله فيك أخي في الله على هذه الشجون الإنسانية
كل انسان يستطيع العطاء ! فقط اذا أراد؟؟؟
السلام عليكم .
كثير ممن أعطوا أنفسهم للدنيا , وفرغوا قلوبهم من قيم هي حياة ..فهم من دونها أحياء جامدين
يسمون ذلك (كلام كتب) .. بارك الله بك
وبفكرك ..وثبتك ,فنماذج الأخوة تندر الآن
إرسال تعليق