فى صعيد مصر 2002/2003
الجزء الثالث والأخير
الجزء الثالث والأخير
...........................................
لقد تساءل الجميع فى حينها عن سر قرار التحويل المفاجئ من جامعة أسيوط باستنكار , ولهم حق فى ذلك , فان عوامل الاستقرار لدى كانت قد تحققت سواء النفسية والاجتماعية أو الدعوية والدراسية .. وأخفيت السر عن الجميع حتى والداى , وتركتهم على تفسيرهم القديم بأنى لا أطيق الغربة .. أما الحقيقة فلها قصة بسيطة .. ـفى هذا الوقت كان قد تزوجت لى أختان من الثلاثة اللاتى أنعم الله علينا بهن , وفى نفس الوقت كان أخى الأكبر يؤدى الخدمة العسكرية بالقاهرة ولم يبق فى منزلنا سوى والدى ووالدتى وأختى الصغرى فى الاعدادية , وأنا بالطبع فى أسيوط .. فى هذه الأثناء مرض والدى مرض شديد جعله يذهب الى كل ما تستطيع حصره من الأطباء , ولم يكن معه أحد يعتمد عليه فى ذهابه وايابه , اذ كان يتحرك بصعوبة ويجوب مصر كلها وراء هؤلاء الأطباء حتى انه جرب الطب الشعبى بأنواعه مع أناس ليسوا بأطباء ... لم يكن أمامى سوى هذا الخيار اذاً , ولابد أن أتحمل مسئوليتى بشجاعة ... فلم أتردد كثيراً خاصة أنه كان يشجعنى على التحويل لأكون بمكان قريب من البيت دون أن يشير الى حاجته الىّ .. وقد كان .. ـ
فبدأت اجراءات التحويل فى سرية وسرعة وقدمت أوراقى الى ثلاث جامعات ( المنصورة وطنطا والمنوفية ) وكان فى الاحتياط ( الاسكندرية وبنها والقاهرة ) , وتم قبولى بعد مداولات كثيرة جداً بجامعة المنصورة مع قائمة طويلة من الشروط أصعبها اضافة 4 مواد زيادة على السنة التى سألتحق بها .. واستقرت بى الأمور بالمنصورة بفضل الله وكرمه فكانت أسيوط هى مدرسة الحياة الابتدائية والمنصورة هى مدرسة الحياة الاعدادية
كان خبر التحويل مفاجئاً وصادما لرفاق الدرب فى أسيوط .. اخوانى الذين لم تلدهم أمى ولكن كان للحياة معهم طعم آخر .. أذكر يوم زيارتى لأسيوط بعد التحويل لاخلاء الطرف , ورأيت وجوههم فى استقبالى ما بين غاضب ومستنكر وحزين ورافض .. كانت لحظات وداع صعبة فى حياتى , راجعت نفسى ـ فى نفسى ـ حينها مئات المرات .. وداع لم أشعر بمثله الا يوم أن فقدت والدتى رحمها الله منذ شهور .. وكأنها لحظات تطوف على القلب كل فترة لتطبع فيه حكمة الزمان بأن المعاناة جزء من الحياة
هتفنا يومها من قلوبنا : مهما طال بينا الزمان راح يكون بيننا تلاقى ,, لو يفرقنا المكان فى القلوب العهد باقى
نعم فى القلوب العهد باقى وسيبقى الى أن نموت ان شاء الله ..
فكيف أنسى أخاً علمنى كيف يضع الأخ يده فى جيب أخيه فلا يسأله لماذا وماذا أخذت .. فذكرنا بالعهد الاول من الصحابة والتابعين فى وقت كنا نظن أن الطريق اليهم طويل وشاق ومستحيلوكيف أنسى أخاً علمنى أن الحب والاخوة , تضحية وعمل , لا كلام وخواطر , فكنا نلهث وراءه فى ذلك فلا نستطيع اللحاق به فأتعبنا .. لكن علمنا
وكيف أنسى أخاً علمنى كيف أتفكر فى الملكوت .. كان ينظر الى ما حوله نظرة تختلف عنا , فكان له من كل شيئ حوله عبرة , فأحيا قلوبنا بقلبه الرفيع الموصول بالله
وكيف أنسى أخاً كنا نجلس أمامه فقط لننظر اليه فاذا دموعنا تجرى على خدودنا أنهاراً وكأنى بها تصرخ فينا : متى تصلوا الى ما وصل اليه , كان يجسد الربانية بمعانيها وترى في وجهه روعة السرائر الالهية .. لله درك يا مهدى وأنى لنا بمهدى مثلك الآن
أم كيف أنسى أخاً حمل حياته على كفه ضارباً لنا أروع الأمثلة فى التضحية من أجل فكرته التى طالما دافع عنها فلقى ما لقى فى سبيلها فلم يفتر ولم يهتز
نعم لم انسى .. فهناك تعلمت فى مدرسة الوفاء ألا أنسى , رغم أن النسيان من صفات الانسان .. أجبرتنى الحياة أن أفارق من أحب , فعلمتنى الأصالة ألا أنسى من أفارق
أستطيع أن ألخص مجمل الفروق بين ما قبل أسيوط وما بعدها بالنسبة لى , فى نقاط سريعة :ـ
- رأيت نموذجاً للدعوة على أصولها ـ علما وعمالاً لها ـ ولم أكن مبالغاً حين قلت لهم : ان النصر سيأتى من الصعيد ( اقصد من المنتمين الى الحركة الاسلامية هناك ) ـ
- تلقنت دروساً فى فن الحياة وخالطت أصنافاً كثيرة من البشر باختلاف نشأتهم من الاسكندرية الى أسوان ومن سيناء الى السويس الى البحر الاحمر
- وتكشفت لى جوانب جديدة عن مصر فى عمقها المنسى , وكثير من أبناء مصر لا يعلم عنها شيئاً ـ رغم ان الصعيد يمثل ثلثى مصر مساحة وكثافة ـ وكما أن النصر سيأتى من الصعيد فان الفتنة والهزيمة ستأتى من هناك أيضاً لأنها بركان خامد تصول فيه عوامل الفساد والتبعية
- وكان لى شرف التعرف على أساتذة وعلماء فضلاء مثل الاستاذ الدكتور / محمود حسين بكلية الهندسة ـ عضو مكتب الارشاد ـ والاستاذ الدكتور / محمد دهيم , بكلية الهندسة ـ أكبر اخوان أسيوط سنا ـ والشيخ / محمد خلف ( يطلقون عليه قرضاوى أسيوط ).. لهم منى كل الحب والتقدير والعرفان
- ثم أخيراً .. تشكلت فى أسيوط جوانب كبيرة من تكوينى الداخلى .. فلقد كانت محطة أسيوط أبرز محطات حياتى لأنها أحد ثلاثة عوامل شكلت عاطفتى , وأحد عاملين شكلا شخصيتى .. وان هذا الهبوط الدراماتيكى فى التكوين النفسى والعاطفى نتيجة تلك العوامل يمثل عنصر الأساس وحجر الزاوية التى بنيت عليها شخصيتى بعد ذلك , واسميته هبوطاً من باب نقد الذات ..لأننى أسير الحاح خاطرة ـ كنت قد كتبتها ولم أنشرها من قبل ـ جاء فى مطلعها :
لم يعد للحديث بقية
والله من وراء القصد
والله من وراء القصد
ابن البارك
نوفمبر 2009