الحلقة الثانية ... سلسلة (همس) ـ
حسن البنا ... المحب
بقلم : ابن المبارك ـ يوليو 2008
تحدثنا فى الحلقة الاولى من السلسة : " لا تقتل حبك " , عن ضرورة الافصاح عن الحب والمشاعر تأسياًًًً بالنبى صلى الله عليه وسلم وصحابته ,, ويحسن بك أن تقرأ السلسلة من أولها لكى تستكمل الفائدة المرجوة .. فالترتيب مقصود وله معنى .ـ
وفى هذه الحلقة .. أتناول تأصيلاً واقعياً جديداً لمعانى رقيقة أراد الامام حسن البنا أن يرسخها فى نفوس اخوانه لتصبح من البداهة بمكان أن يغمر كل أحاديثنا استراحات عاطفية ترق لها القلوب وتميل اليها الأرواح .. فى تناسق عجيب بين العقل والقلب وبين العلم والوجدان .ـ
وهذه مقتطفات من كلام الامام البنا ـ رحمه الله ـ انقلها لكم كما هى لتلمس فيها ما أردت أن أصل بك اليه , ولكن .. قبل أن تقرأ ,, جهز روحك لترتفع ارتفاع السحاب مع هذه الأحاديث الرقراقة , فالكلام واحد ولكن القارئ يختلف ..ـ
ودعك من معانى السمو الخاطئة وافتح قلبك لينساب ماء خفيف شفاف تراه ماءاً وهو فى الأصل دواء .. وجرب تر .ـ
الحب .. نعمة ونهضة
فى عاطفة الثلاثاء وجه الامام البنا هذه الكلمات الى اخوانه : " أجدنى مدفوعاً الى مصارحتكم ببعض العواطف النفسية التى تخالجنى , والتى يهتز لها قلبى , ولعل الذى يدفعنى الى هذا أننى أعتقد أن الحلقة المفقودة فى نهضة الاسلام اليوم هى رابطة الحب والأخوة " .ـ
" وقلت لكم فيما مضى أنها نعمتان من نعم الله على عباده لا تنالان بمال ولا يتوصل اليهما بحيلة , ولا يحصل عليهما أحد بجهد , ولكنهما من نعم الله الكبرى .. هما الايمان والحب , فمهما بذل الانسان من مال ومهما حاول من حيلة , فانه لن ينالهما الا بتوفيق الله تعالى .. ( لو أنفقت ما فى الارض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " ـ
بهذه المناسبة ( الحب نعمة ) تذكرت أخ صديق لى , كان كثيرا ما يحدثنى عن استنكاره لبعض اخوانه من ذوى العواطف الجياشة والذين لا يخفون حبهم ولا يكتمون عواطفهم .. وكان هذا الأخ كثيراً ما يطالبنى باتخاذ مواقف حاسمة من هؤلاء بدعوى أن هذه المشاعر وتلك العواطف لا مكان لها بين هموم الدعوة وأعباء العمل وأنها تعطل أصحابها عن القيام بواجباتهم .. ولما لم يجد استجابة منى لرأيه ـ فالأمر ليس صحيحاً على اطلاقه ـ راح يتحدث بهذا الأمر مع آخرين ممن على نفس حالته , وهو صادق فى نيته ـ لا أشك فى اخلاصه ـ والله حسيبه .. استمر هذا الأمر عام كامل أو يزيد ,, حتى جاءت اللحظة الفارقة .. وحدثت النعمة .. ـ
أقام هذا الأخ الفاضل بمسكن مع بعض اخوانه ووقعت قرعته فى غرفة مع أخ يصغره بثلاث سنوات.. ارتبط به سريعاً وتعلق قلبه به شغفا وحباً .. وازداد هذا الحب يوما بعد يوم .. حتى أصبح كل شيئ فى حياته , وأضحى الآخرون يتحدثون عنه بمثل ما كان يتحدث به عنهم .ـ
تذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن السيدة خديجة " انى قد رزقت حبها " .. حقاً .. انه رزق وانها نعمة , ومن ذاق عرف .. لقد كنت أتعجب عندا أقرأ الرسائل المتبادلة بين الأخين .. فيض من المشاعر لم أستطع مجاراته فيها , و كنت أظن نفسى رائداً لها , ولقد راجعته مراراً أستحلفه اكان هو من كتبها أم غيره .. وسبحان الله مغير الأحوال .ـ
يقول الامام البنا : " وثقوا أيها الاخوان أن هذه العاطفة التى ألفت بين قلوبنا وأرواحنا هى سر عجيب من أسرار القوة التى لا يستشعرها الا المتحابون , يمن الله بها على من يشاء من عباده " ـ
سؤال حير كثيرون
يقول الامام : " وسألنى أحد الاخوان هل يستطيع الأخ أن يفيد أخاه وأن ينفعه وان يمده بسبب مادى أو روحى , فقلت له : أوضح ! .. فقال يدعو له ويهتم بأمره بينه وبين نفسه أو يشتغل به , وهل فى النصوص الاسلامية أو الوقائع ما يدل على هذا أو يؤيده ؟؟
فى الواقع أيها الاخوان لقد سررت لها الأمر من وجهين : الاول أنه فائدة علمية ,, والثانى أن النبى قال : العلم خزائن ومفاتيحها السؤال , ويثاب فى السؤال ثلاثة , السائل والمسئول والمستمع فهو يفتح باباً من أبواب الخير .. ولكن سرورى كان أبلغ وأعظم , لأنى استشرفت من وراء هذا معنى عاطفياً , وهو أن هذا الأخ كان مشغولاً باخوانه , وأنه يود أن يشتغل بهم , وما خطر له ذلك وما دفعه اليه الا شعور باطنى عظيم , لأنه اما انه مشغول به على ان ينفعه فهو يريد أن يفيد أخاه , واما أنه فى حاجة الى معونة اخوانه فلعله يتلمس منهم المعونة ففى هذه الحركة النفسية اشتغال قلب بقلب ونفس بنفس ,, وذلك كله من صميم الاسلام , وانى أصدقكم القول أن كل مشاغلى لم تنسنى التلذذ بهذا السؤال وقد أحسست أن القلوب يشتغل بعضها ببعض " ـ
اعـــتراض
وكما حكيت عن صاحبى اعتراضه السالف , قام من يعترض على الامام البنا .. " كان من الملاحظات التى شافهنى بها أحد الاخوان ولا أدرى لم كان منه هذا ؟ . قال لى اننا نقطع بعض الوقت فى هذه المناجاة العاطفية , وليعذرنى الأخ اذا قلت له : ان هذه المناجاة وهذه المكاشفة القلبية تمليها العاطفة وتوحى بها الأخوة , ويراد بها الوصول الى الهدف العملى لا مجرد القول " ـ
" ويقول بعض الاخوان أننى آخذ معظم الجلسة فى التطلع الى وجوه الاخوان وأشعر بحالة غريبة كأنها دينامو متصل ببطارية يصل الى منها شحنة روحية فأفكر وأحس بأن هذا التيار يتردد كلما نظرت الى الاخوان ثم ينصب على انصباباً " .. " لذلك أنا مصر أيها الاخوان على أن أناجيكم دائماً وأوجهكم الى أنه لا نهضة بغير حب ولا حب بغير ايمان , وكلما خطرت بالنفس صورة هذا الاجتماع الكريم أحييت به أملا كريماً , ذلك لأننا معشر المسلمين لا ينقصنا شيئ كما تنقصنا العاطفة القوية الدفاقة التى تؤلف بين القلوب , وتحقق فيها العمل التصويرى الذى قصده النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله : مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد , اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر " ـ
الحب مواقف
ـ يقول الامام البنا : " قرأت أن رجلاً فى احدى المواقع الحربية أصيب بالسيف فحضرته المنية وما تأوه وما صاح ولكنه خر صريعاً كما تخر الأبطال , ليس هذا الذى أسوق له الحديث .. انظر : تقع ضربة السيف على عاتقه فاذا أخ بجواره يصيح : أخى سبقتنى الى الجنة ... هزنى هذا المظهر هزا .. هذا يضرب وذاك يصيح , والمضروب لا يصح بل يتشجع لأنه مؤمن يعلم أن الضربة ستودى به الى الجنة ,, ولكن انظر الى جاره يقول : آه , كأن الضربة قد نزلت به : أخى سبقتنى الى الجنة , هذا المعنى صور لى قول الرسول صلى الله عليه وسلم " ترى المؤمنين فى توادهم وتراحمهم .. ” , لم يتأوه المضروب لكن تأوه له أخوه , كأنهما حقيقة واحدة .. والذى يزيد هذا الأمر روعة أن الذى نطق لم ينطق بها تكلفاً , نطق بها احساساً بألم أخيه " (1) ـ
ـ “ انى قد سمعت من أحد الاخوان كلمة عابرة وكثيراً ما وجدت لها هذا الأثر الحلو فى نفسى , ذلك اننا كنا فى كتيبة , ومن نظام الكتيبة أن يكون فيها حديث حول الفكرة والدعوة , ولكنه فى هذه الكتيبة كان حديثاً مختصراً , ونظر أحد الاخوان الى أخيه وقال لم لم نتكلم الليلة كثيراً ؟ فقال : انا لا نأتى للكلام ولكن يكفينا أن ينظر بعضنا الى بعض وأن يتلاقى بعضنا مع بعض ... صدقونى أيها الاخوان أن هذه الكلمة أثرت فى نفسى تأثيراً عميقاً , فان الأخ كان يقولها من عصارة قلبه ومن أعماق نفسه , بهذا الشعور جاء هذا الأخ ليسعد ولينعم بهذه القلوب المؤمنة التى اجتمعت على أقدس المبادئ وأنبل الغايات ,, طمأننى هذا لاشعور وعلمت أن الله تعالى قد انعم علينا بالراط الروحى الذى لا يعادله أية قوة فى الوجود " ـ
ـ " و اثنين تآخيا فى الله سافرا معاً فى سفينة , وقف أحدهما على حافة السفينة فنزلت به قدمه فوقع فى البحر , فما ان شعر أخوه بهذا الحادث الا وقد استولت عليه الدهشة فوقع وراءه .. فانتشلهما رجال السفينة , فلما أفاق الأول رأى أخاه مبتلاً من أثر الغرق فقال له : ما بالك ؟؟ قال : شغلت بك عنى فظننت أنك أنى " ـ
أختم بمقولة للحاج عباس السيسى رحمه الله ـ قال يصف الجو المحيط بالامام البنا الذى عايشه : “ لقد تفجَّرت ينابيع الحب في أعماقنا، وتجسَّدت حركةً وخلقًا في معاملاتنا، وأصبح الحب مشغلةً نفسيةً عميقةً في حياتنا، ولكننا كنا حديثي عهد بهذا الإشراق وتلك الأشواق، ولا تزال صورة الحب الجاهلي تصدُّنا خوفًا وخجلاً، كنا نقول في أنفسنا: هل هذا الشعور الجديد له ثوابت سابقة في صدر الإسلام؟! وإذا كان كذلك فلماذا ظلَّ ويظلُّ حبيسًا مكسوفًا تتناجَى به القلوب على استحياء؟! ولماذا لا يصارع في معركة الإسلام العاطفية والروحية ويكشف عن مناجم العواطف المذخورة في أعماق النفوس الإسلامية المتدفِّقة في شرايين شباب هذه الأمة الحائرة المتعطشة لنمو الحب ؟ " ـ
أصبح الحب مشغلة عميقة فى حياتنا !! ياله من تعبير فاق الهدف من المقال وأنهى كل الكلام !!ـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق