مهما كتبت ووصفت , وسمعت وقرأت .. ستظل النفس الانسانية أكبر لغز فى الحياة , حار فيها العلماء والأطباء .. لتبقى سرها بيد خالقها .. بأمره وبحكمته المطلقة
وقفت مشدوداً أمام قصة " أم زكريا " التى رواها الشاعر اللبنانى / أنسى الحاج ؟؟ أسرتنى تلك الخدعة الحانية التى فعلتها أم زكريا بابنها فى لحظة فارقة وفاصلة .. واستدعى ذلك عندى خواطر وذكريات أخرى
يقول أنسى الحاج :
زكريّا عاملُ مطبعةٍ يقود سيّارته وإلى جانبه أمّه. يتحادثان في شؤون يوميّة. فجأةً تشعر الأمّ بألمٍ هائل في صدرها، ألم الذبحة.
تُمْسك قلبها ويَصْفرُّ وجهها، فيسألها زكريّا ما بها، فتجيبه: « لا شيءَ، وجعٌ ويمرّ ».
ويشتدّ الألم. وكأنها شعرتْ بدنوّ أَجَلها ، تقول لابنها بلهجةٍ تريد التطمين: « باللّه يا بنيّ أدرْ وجهكَ عنّي لحظةً فقط حتّى تمرّ الأزمة... لا أريدكَ أن تتضايق »
ومطيعاً إيّاها كعادته أدار وجهه صوبَ الطريق أمامه. ولمّا عاد ونظر إليها بعد دقيقة رآها انزوت في ركنها وقد لفظتْ أنفاسها
لم تشأ أن يراها تموت
آخر دَفْقَةٍ من حبّها كانت إراحته من مشهد أشفقت عليه منه، وربما أشفقت أيضاً على نفسها. أخذت حصّتها من الموت بخَفَر مَن اعتاد حصرَ المهامِّ الثقيلةِ بنفسه.
أرادت للحياة العاديّة أن تستمر مع ابنها بلا تشويه، كأن مشهد نَزْعها الأخير هو الضريبة غير المحتملة، لا موتها. بعد الموت ستعود الحياة، أمّا مشهد «الانتقال» فصدمةٌ أبديّة.
كان العالم ـ بالزاك ـ يقول إن قلبَ الأمّ هاوية وفي أعماق هذه الهاوية يكمن الغفران. عندما أخبرني زكريّا حكايةَ أمّه رأيتُ فيها أكبر من الغفران.
رأيتُ الفداء.
أنا أمّكَ أحميكَ من مَوتي.
من منظري وأنا أموت حتى لا يسكنكَ خوف موتك.
أنا أمّكَ حملت بك وأحمل عنك حتّى الرمق الأخير.
برَمَقي الأخير.
وما بعده.
لحظة، كلّها لحظة، تغمركَ بعدها الحياةُ وتُنسيك...
كلّ امرأةٍ تفعل ما فعلته والدةُ زكريّا تلك اللحظة، هي أمّ. بل كلّ رجلٍ يفعل ما فعلته والدةُ زكريّا تلك اللحظة، هو أمّ.
إذا أردتُ أن أتخيَّلَ صورةً مُثلى لأمومةِ الكون لما وجدتُ أروعَ من صورةِ أمّ زكريّا تلك اللحظة.
أخذتْ أمّ زكريّا إجازة منه ثواني لتموت دون أن يَشعر. قالت له: «لا أريدكَ أن تنظر إليّ الآن. انظرْ إليّ بعد قليل».
لم يعد أمامها ما تعطيه إيّاه إلّا هذا الإعفاء، فكُّ ارتباطِ مَرْكَبهِ السائر بمركبها الغارق.
سَكَنَتْني هذه الصورة وسوف تظلّ تسكنني. عاملُ مطبعةٍ فقيرٍ وأمّه الفقيرة. حديثٌ عاديّ في سيّارة متواضعة. وموتٌ لم يُمهّد له شيء، موتٌ وديع وداعةً مُطْلَقَة.
خطأ قاهر ومعه اعتذاره.
.......
تذكرت قصة أم اخرى مع ابنها ولكن بمشهد معكوس .. كانت مريضة مرضاً شديداً أقعدها وحاصرها فى سرير الموت سنين , وكان ابنها الشاب يجلس معها يحكى عن نفسه وظروفه ليسليها ويخفف عنها .. كان يتحدث لها بأشياء غير حقيقية .. أمور وهمية .. محاولات بائسة للتخفيف عنها ,, فما أعظم سعادة الأم بنجاح ابنها وسعادته
كان يحكى لها عن روعة وظيفته ومهنته .. كيف أنه ماض فيها بخطى ثابتة من نجاح الى نجاح .. يسافر هنا وهناك ويعمل بجد واجتهاد ..فى وقت لم يشهد فيها هذا الابن استقراراً يوماً بسبب ظروفه الاجتماعية المؤلمة
كان يحكى لها عن عن أحواله المادية الرغيدة التى يعيشها .. عن راتبه الشهرى الذى يكفى الشهرين ويفيض للادخار .. فى وقت كان يعيش بالأيام وفى جيبه جنيهان أو أقل حتى يقضى الله أمراً كان مفعولا
كان يحكى عن طعامه وشرابه الذى كان من أجود الطعام .. لحوم وأسماك وفواكه مما يشتهون .. فى وقت كان لا يعرف شكل هذه الأشياء الا يوم الجمعة كل أسبوعين
كان يحكى عن أحلامه الوردية ومستقبله الباهر وعلاقاته الواسعة , وحب الناس له , , عن لطف الحياة وجمال الكون من حوله .. عن روعة الأًيام ... كان يحكى ويحكى .. وآه لو نظرت فى عينيه !! تراه يذهب بوجهه بعيداً لكى لا ينكشف سره ..
نعم .. كان يخدعها رحمة بها .. يخفف من صدمات الحياة القاسية .. يزرع شعاع نور فى محيطه الداكن تلطيفاً للأجواء وترطيباً للأفئدة
نعم انها الخدعة الحانية .. آخر دفقة من حبه فى حياتها كان اراحتها من الهم الطبيعى لدى الأم تجاه ابنها .. اشاحة عفوية بوجهه عنها , ونظرة من طرف خفى ,, لم يجد أفضل من تغييب الحقيقة عمداً عن المشهد .. لكى يمر هذا الشعاع الخافت من الثقب الضيق بسلام
فى حياة المرء من هذه الخدع الانسانية كثير كثير .. مع أطراف كثيرة .. يطول المقام بذكرها .. وكلنا نمارس هذا النوع الانسانى الفطرى .. وما العيب فى ذلك ؟؟ فكم مارست أمهاتنا ذلك معنا .. يخفون آلامهم وأحزانهم عنا من اجل رؤية ابتسامة واحدة على وجوههنا .. ألا فلتدبروا قصة أم زكريا !! ـ
لكن يظل الفراغ قائماً .. بل يزداد يوماً بعد يوم .. عند زكريا وعند هذا الابن على السواء ..النداء الخفى مازال يطاردهم فى داخلهم ويهتف كل حين فى صمت أبلغ من الكلام : " ماتت التى كنا نكرمك من أجلها " ـ
كم يشتاق المرء فينا ـ أحياناً ـ الى خدعة انسانية جديدة .. تحيي القلب مرة أخرى وتجدد العهد بيقظة الروح ,, ولكن .......... ! ـ
..............
سألجم قلبى حيناً , كى أحيا فى الدرب زماناً
سأموت اذا صرت رقيقاً , لن يجدوا فى قبرى مكاناً